الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَالَ تَعَالَى فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ مِنْ سُورَةِ الشُّورَى بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 42: 15 أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الرُّسُلُ فِي عُصُورِهِمْ، قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ الَّذِي ابْتُدِعَ مِنْ بُعْدِهِمْ، وَأَنْ يَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، وَأَنْ يُخَاطِبَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِمَا يَتَبَرَّأُ بِهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَمِنْ إِثَارَتِهِ بِحُجَجِ الْجِدَالِ، وَاكْتَفَى فِي سُورَةِ هُودٍ بِالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْجَادَّةِ وَالنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُ الْبَغْيُ الَّذِي يُورِثُ الِاخْتِلَافَ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ كَافَّةً، لَا بِحَالِ قَوْمِ مُوسَى وَمَنْ أُورِثُوا الْكِتَابَ خَاصَّةً، فَهَذَا فَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ.وَقَدْ أَوْجَزَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَصْفِ هَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: وَهِيَ شَامِلَةٌ لِلِاسْتِقَامَةِ فِي الْعَقَائِدِ كَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ- وَالْأَعْمَالِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَبَيَانِ الشَّرَائِعِ كَمَا أُنْزِلَ، وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ وَإِفْرَاطٍ مُفَوِّتٍ لِلْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا، وَهِيَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، (كَذَا قَالَ) ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ وَانْحِرَافٍ بِنَحْوِ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِحْسَانٍ اهـ.وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ يَنْقُضُ بَعْضَهُ. فَأَحَقُّ النُّصُوصِ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ نُصُوصُ الْعَقَائِدِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَعَالَمِ الْغَيْبِ إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ وَالرَّأْيِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ تَحْكِيمُ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِيهَا مَثَارَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ وَالِافْتِرَاقِ فِي الْأُمَّةِ، الَّذِي نَعَاهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَحَذَّرَنَا مِنْهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهُ مِنْ سِيَاقِ سُورَةِ الشُّورَى، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَقَدْ تَرَكَ الْبَيْضَاوِيُّ بَابَهُ مَفْتُوحًا بِزَعْمِهِ أَنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي الْعَقَائِدِ وَسَطٌ بَيْنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ، وَيَعْنِي بِهِ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ لِأَنَّهُ مِنْ أَسَاطِينِ نُظَّارِهِ، وَحَجَّتُهُ قَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَبْقَى الْعَقْلُ مَصُونًا مِنَ الطَّرَفَيْنِ.وَالصَّوَابُ أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي الْخَوْضِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، وَفِيمَا دَوْنَ ذَلِكَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ كَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، طُغْيَانٌ مِنَ الْعَقْلِ وَتَجَاوُزٌ لِحُدُودِهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، لَا صِيَانَةً لَهُ، فَإِنَّ أَكْبَرَ نُظَّارِ الْبَشَرِ وَفَلَاسِفَتِهِمْ عُقُولًا قَدْ عَجَزُوا إِلَى الْيَوْمِ عَنْ مَعْرِفَةِ كُنْهِ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْفُسِ مَا دُونَهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى الْحَشَرَاتِ كَالنَّحْلِ وَالنَّمْلِ، فَأَنَّى لَهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا كُنْهَ ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، وَلَمَّا خَرَجُوا عَنْ هَدْيِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَحَمْلَةِ الْآثَارِ زَاغُوا فَكَانُوا {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 30: 32 سَقَطَ بَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّعْطِيلِ، وَبَعْضُهُمْ فِي خَيَالِ التَّشْبِيهِ، وَبَعْضُهُمْ فِي حَيْرَةِ النَّفْيِ الْمَحْضِ هَرَبًا مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الذَّبْذَبَةِ بِتَأْوِيلِ بَعْضِ النُّصُوصِ دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ الْبَيْضَاوِيُّ وَسَطًا، فَهُمْ يَتَأَوَّلُونَ عُلُوَّ الرَّبِّ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ، وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ، وَحُبَّهُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَمْثَالَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْمُنَفِّرَةِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، يَتَأَوَّلُونَهَا هَرَبًا مِنَ التَّشْبِيهِ بِزَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا مِنْ تَأْوِيلٍ لَهَا إِلَّا وَهُوَ بِأَلْفَاظٍ بَشَرِيَّةٍ مِثْلِهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا إِيثَارٌ لِمَا اخْتَارُوهُ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَرَضِيَهُ لِنَفْسِهِ.ثُمَّ إِنَّهُمْ لَا يُؤَوِّلُونَ صِفَاتِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِي الْبَشَرِ تَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ الَّذِي قَالُوهُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى لَيْسَ كَعِلْمِنَا فِي اسْتِعْدَادِهِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ وَلَا فِي صُورَتِهَا فِي النَّفْسِ- فَكَيْفَ إِذَا قُلْنَا فِي الدِّمَاغِ- وَلَا فِي انْقِسَامِهِ إِلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ يَنْقَسِمَانِ إِلَى بَدِيهِيٍّ وَنَظَرِيٍّ، وَلَا قُدْرَتُهُ تَعَالَى وَمَشِيئَتُهُ فِي كُنْهِهِمَا وَتَعَلُّقِهِمَا بِالْأَشْيَاءِ كَقُدْرَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا، فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَكَمَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا تِلْكَ الْأَسْمَاءُ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ وَقَدْ قَالُوا فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى: إِنَّهَا حَقٌّ بِلَا كَيْفٍ. فَلِمَ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا فِي غَيْرِهَا؟!. وَإِنَّمَا نَقُولُ هُنَا: لَوْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الْكَلَامِيَّ الَّذِي عَنَاهُ الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا شَيْءٌ يَقْتَضِيهِ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوِ النَّظَرِيِّ، الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ، لَمَا وَقَعَ فِيهِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَمَصْلَحَةً، حَتَّى انْتَهَى بِبَعْضِ الْفِرَقِ إِلَى الْمُرُوقِ مِنَ الْمِلَّةِ بِتَأْوِيلِ أَرْكَانِ الدِّينِ حَتَّى الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَسَاغَ فِيهَا لِلتَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَقَعْ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَلَا أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْعَمَلِيَّةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- وَهُمْ أَعْلَمُ بِالدِّينِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ كُلِّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، وَبِذَلِكَ دُونَ سِوَاهُ نَجْتَنِبُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعَهُمْ مِنِ اجْتِنَابِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ، الَّذِي أَوْعَدَ اللهُ أَهْلَهُ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ، وَبَرَّأَ رَسُولَهُ مِنْ أَهْلِهِ الْمُفَرِّقِينَ وَالْمُتَفَرِّقِينَ.وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْتِزَامَ كِتَابِ اللهِ وَمَا فَسَّرَتْهُ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ، بِدُونِ تَحَكُّمٍ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا التَّحْرِيمُ الدِّينِيُّ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَاسُ مِنْهُ وَلَا يُخِلُّ بِالدِّينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِقَطْعِ أُخُوَّتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} 4: 59 الْآيَةَ.هَذَا؛ وَإِنَّ مَقَامَ الِاسْتِقَامَةِ لَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ، يُرْتَقَى بِهِ لِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ بِهِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَلِمُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} 10: 89 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [41: 30] الْآيَاتِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» فَالِاسْتِقَامَةُ عَيْنُ الْكَرَامَةِ كَمَا قَالُوا.قَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ الزُّعْبِيُّ الْجِيلَانِيُّ لِعَمِّ وَالِدِي السَّيِّدِ أَحْمَدَ أَبِي الْكَمَالِ وَهُوَ زَوْجُ عَمَّتِهِ: يَا سَيِّدِي إِنَّكَ صَحِبْتَ الشَّيْخَ مَحْمُودًا الرَّافِعِيَّ، وَإِنِّي أَرَى أَتْبَاعَهُ يَذْكُرُونَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الْكَرَامَاتِ فَأَرْجُو أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا رَأَيْتَ مِنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ مِنْهُ كَرَامَةً وَاحِدَةً هِيَ الِاسْتِقَامَةُ. أَخْبَرَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ هَذَا الْخَبَرَ، وَقَالَ: أَنَا لَمْ أَكُنْ أُصَدِّقُ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الْكَرَامَاتِ، فَسَأَلْتُهُ لِأَنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الصِّدِّيقِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَكَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْفَتَّاحِ نَقَّادَةً وَسَيِّئَ الظَّنِّ بِمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الطَّرِيقِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّلَاحِ مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُمْ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكَرَامَاتِ كَذِبٌ كَمَا عَهِدَهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مُعَاصِرِيهِ وَبَعْضُهُ أَوْهَامٌ، وَاخْتُبِرَ الْتِزَامُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ لِلصِّدْقِ بِطُولِ الْمُعَاشَرَةِ، لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْنِ وَالْمُصَاهَرَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَلَى صِغَرِ شَأْنِهَا لِأَنَّ أُولَى الصِّدْقِ وَالِاسْتِقَامَةِ فِي هَذِهِ الْبُيُوتَاتِ الْقَدِيمَةِ أَمْسَى قَلِيلًا فِي بَعْضِهَا وَخَلَا مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَيْضَاوِيُّ قَالَ فِي الْقَرْنِ السَّابِعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ: إِنَّ الِاسْتِقَامَةَ فِي غَايَةِ الْعُسْرِ، فَمَا قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِقِلَّةِ مَنْ يَرْعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا أَوْ بُلُوغِ الْكَمَالِ فِيهَا، لَا لِعُسْرِهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُكَلِّفْنَا مِنْ شَرْعِهِ عُسْرًا {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 2: 185. اهـ.
قال: ووجهُه مِن القياس أنَّ إنْ مُشْبِهَةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذوفًا كما يَعْمل غيرَ محذوف نحو: لم يكُ زيد منطلقًا: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109] وكذلك لا أَدْرِ. قلت: وهذا مذهبُ البصريين، أعني أنَّ هذه الأحرفَ إذا خُفِّف بعضُها جاز أن تعملَ وأن تُهْمَلَ كإنْ، والأكثر الإِهمالُ، وقد أُجْمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ}، وبعضُها يجب إعمالُه ك أنْ بالفتح وكأنْ، ولكنهما لا يَعْملان في مُظْهَرٍ ولا ضميرٍ بارزٍ إلا ضرورةً، وبعضُها يَجِبُ إهمالُه عند الجمهور كلكن.وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإِهمالَ في إنْ المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم، بدليل هذه القراءة المتواترة. وقد أنشدَ سيبويهِ على إعمالِ هذه الحروفِ مخففةً قولَه: قال الفراء: لم نَسْمَعِ العربَ تُخَفِّفُ وتَعْمل إلا مع المكنى كقوله: قال: لأنَّ المكنى لا يَظْهر فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع. قلت: وقد تقدَّم ما أنشده سيبويهِ وقولُ الآخر: وقوله: هذا ما يتعلق ب إنْ. وأمَّا لَمَا في هذه القراءة فاللامُ فيها هي لامُ إنْ الداخلةُ في الخبر. و«ما» يجوز أن تكونَ موصولةً بمعنى الذي واقعةً على مَنْ يَعْقل كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] فأوقع ما على العاقل. واللام في {ليوفِّيَنَّهم} جوابُ قسمٍ مضمر، والجملةُ مِن القسم وجوابِه صلةٌ للموصول، والتقدير: وإنْ كلًا لَلذين واللَّه ليوفيَّنهم. ويجوز أن تكونَ هنا نكرةً موصوفةً، والجملةُ القسميةُ وجوابُها صفةٌ ل ما والتقدير: وإنْ كلًا لخَلْقٌ أو لفريقٌ واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، والموصولُ وصلتُه أو الموصوفُ وصفتُه خبرٌ ل إنْ.وقال بعضُهم: اللامُ الأولى هي الموطِّئةُ للقسَم، ولمَّا اجتمع اللامان، واتفقا في اللفظ فُصِل بينهما بما كما فُصِل بالألف بين النونين في يَضْرِبْنانِّ، وبين الهمزتين في نحو: أأنت. فظاهرُ هذه العبارة أنَّ ما هنا زائدةٌ جي بها للفصل إصلاحًا لِلَّفظ، وعبارةُ الفارسي مُؤْذِنَةٌ بهذا، إلا أنه جَعَلَ اللامَ الأولى لامَ إنْ فقال: العُرْفُ أن تُدْخِل لامَ الابتداء على الخبر، والخبرُ هنا هو القَسَمُ وفيه لام تَدْخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللامان والقسمُ محذوفٌ، واتفقا في اللفظ وفي تَلَقِّي القسم، فَصَلوا بينهما كما فَصَلوا بين إنَّ واللام.وقد صَرَّح الزمخشري بذلك فقال: واللامُ في لَمَا موطِّئةٌ للقسم وما مزيدةٌ ونَصَّ الحوفيُّ على أنها لام إنْ. وقال أبو شامة: واللامُ في لَمَا هي الفارقة بين المخففة من الثقيلة والنافية وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الفارقةَ إنما يؤتى بها عند التباسِها بالنافية، والالتباسُ إنما يجيء عند إهمالها نحو: إنْ زيدٌ لقائم وهي في الآية الكريمة مُعْمَلة فلا التباسَ بالنافية، فلا يُقال إنها فارقة.فتلخَّص في كلٍ من اللام و«ما» ثلاثة أوجه، أحدها: في اللام: أنها للابتداء الداخلة على خبر: «إن». الثاني: لامٌ موطئة للقسم. الثالث: أنَّها جوابُ القسم كُرِّرَتْ تأكيدًا. وأحدها في ما: أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة. الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللامين.وأمَّا قراءةُ أبي بكر ففيها أوجه، أحدها: ما ذهب إليه الفراء وجماعة من نحاة البصرة والكوفة، وهو أن الأصل: لَمِنْ ما، بكسر الميم على أنها مِنْ الجارة دخلت على ما الموصولة أو الموصوفة كما تقرَّر، أي: لَمِنَ الذين واللَّهِ ليوفِّيَنَّهم، أو لَمِنْ خَلْقٍ واللَّهِ ليوفِّينَّهم، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنةً قبل ميم ما وجب إدغامُها فيها فقُلِبَتْ ميمًا، وأُدْغمت فصار في اللفظ ثلاثةُ أمثال، فخُفِّفَتْ الكلمةُ بحذف إحداها فصار اللفظُ كما ترى لمَّا. قال نصر ابن علي الشيرازي: وَصَلَ مِنْ الجارة ب ما فانقلبت النون أيضًا ميمًا للإِدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فَحُذِفت إحداهن، فبقي لمَّا بالتشديد. قال: وما هنا بمعنى مَنْ وهو اسم لجماعة الناس كما قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} أي مَنْ طاب، والمعنى: وإنْ كلًا مِن الذين ليوفِّينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّيَنَّهم ربُّك أعمالَهم.
|